فصل: تفسير الآيات رقم (50- 68)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 68‏]‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏51‏)‏ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏53‏)‏ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ‏(‏55‏)‏ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏56‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏57‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏58‏)‏ وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏59‏)‏ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ‏(‏60‏)‏ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ‏(‏61‏)‏ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏62‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ‏(‏63‏)‏ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ‏(‏64‏)‏ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ‏(‏65‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏66‏)‏ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏67‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

مضى قوم نوح في التاريخ، الأكثرون المكذبون طواهم الطوفان وطواهم التاريخ؛ واستبعدوا من الحياة ومن رحمة الله سواء، والناجون استخلفوا في الأرض تحقيقاً لسنة الله ووعده‏:‏ ‏{‏إن العاقبة للمتقين‏}‏ ولقد كان وعد الله لنوح‏:‏ ‏{‏يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم‏}‏ فلما دارت عجلة الزمن ومضت خطوات التاريخ جاء وعد الله‏.‏ وإذا عاد من نسل نوح الذين تفرقوا في البلاد ومن بعدهم ثمود ممن حقت عليهم كلمة الله‏:‏ ‏{‏وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم‏}‏ لقد عادت الجاهلية مرة أخرى كما عادت من قبل بعد أجيال لا يعلمها إلا الله من المسلمين من ذرية آدم‏.‏‏.‏ فلا بد أن أجيالاً من ذرية آدم بعد استخلافه في الأرض قد ولدت مسلمة وعاشت بالإسلام الذي كان عليه أبواهم‏.‏ حتى اجتالتهم الشياطين عن دينهم، وانحرفت بهم إلى الجاهلية التي واجهها نوح عليه السلام ثم جاء نوح فنجا معه من نجا من المسلمين، وأهلك الباقون ولم يعد على الأرض من الكافرين ديار كما دعا نوح ربه‏.‏ ولا بد أن أجيالاً كثيرة من ذرية نوح عاشت بالإسلام بعده‏.‏‏.‏ حتى اجتالتهم الشياطين مرة أخرى فانحرفوا كذلك إلى الجاهلية‏.‏ وكانت عاد وكانت ثمود بعدها من أمم الجاهلية‏.‏‏.‏

فأما عاد فكانوا قبيلة تسكن الأحقاف ‏(‏والحقف كثيب الرمل المائل‏)‏ في جنوب الجزيرة العربية، وأما ثمود فكانت قبيلة تسكن مدائن الحِجر في شمال الجزيرة بين تبوك والمدينة وبلغت كل منهما في زمانها أقصى القوة والمنعة والرزق والمتاع‏.‏‏.‏ ولكن هؤلاء وهؤلاء كانوا ممن حقت عليهم كلمة الله، بما عتوا عن أمر الله، واختاروا الوثنية على التوحيد، والدينونة للعبيد على الدينونة لله، وكذبوا الرسل شر تكذيب‏.‏ وفي قصصهم هنا مصداق ما في مطلع السورة من حقائق وقضايا كقصة نوح‏.‏

‏{‏وإلى عاد أخاهم هوداً قال‏:‏ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إن أنتم إلا مفترون‏.‏ يا قوم لا أسألكم عليه أجراً‏.‏ إن أجري إلا على الذي فطرني‏.‏ أفلا تعقلون‏؟‏ ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، يرسل السماء عليكم مدراراً، ويزدكم قوة إلى قوتكم، ولا تتولوا مجرمين‏}‏‏.‏‏.‏

وكان هود من عاد‏.‏ فهو أخوهم‏.‏ واحد منهم، تجمعه كانت آصرة القربى العامة بين أفراد القبيلة الواحدة‏.‏ وتبرز هذه الآصرة هنا في السياق، لأن من شأنها أن تقوم الثقة والتعاطف والتناصح بين الأخ وإخوته، وليبدو موقف القوم من أخيهم ونبيهم شاذاً ومستقبحاً‏!‏ ثم لتقوم المفاصلة في النهاية بين القوم وأخيهم على أساس إفتراق العقيدة‏.‏ ويبرز بذلك معنى إنقطاع الوشائج كلها حين تنقطع وشيجة العقيدة‏.‏

لتتفرد هذه الوشيجة وتبرز في علاقات المجتمع الإسلامي، ثم لكي تتبين طبيعة هذا الدين وخطه الحركي‏.‏‏.‏ فالدعوة به تبدأ والرسول وقومه من أمة واحدة تجمع بينه وبينها أواصر القربى والدم والنسب والعشيرة والأرض‏.‏‏.‏‏.‏ ثم تنتهي بالإفتراق وتكوين أمتين مختلفتين من القوم الواحد‏.‏‏.‏ أمة مسلمة وأمة مشركة‏.‏‏.‏ وبينهما فُرقة ومفاصلة‏.‏‏.‏ وعلى أساس هذه المفاصلة يتم وعد الله بنصر المؤمنين وإهلاك المشركين‏.‏ ولا يجيء وعد الله بهذا ولا يتحقق إلا بعد أن تتم المفاصلة، وتتم المفارقة، وتتميز الصفوف، وينخلع النبي والمؤمنون معه من قومهم، ومن سابق روابطهم ووشائجهم معهم، ويخلعوا ولاءهم لقومهم ولقيادتهم السابقة، ويعطوا ولاءهم كله لله ربهم ولقيادتهم المسلمة التي دعتهم إلى الله وإلى الدينونة له وحده وخلع الدينونة للعباد‏.‏‏.‏ وعندئذٍ فقط لا قبله يتنزل عليهم نصر الله‏.‏‏.‏

‏{‏وإلى عاد أخاهم هودا‏}‏‏.‏‏.‏

أرسلناه إليهم كما أرسلنا نوحاً إلى قومه في القصة السابقة‏.‏

‏{‏قال‏:‏ يا قوم‏}‏‏.‏‏.‏

بهذا التودد، والتذكير بالأواصر التي تجمعهم، لعل ذلك يستشير مشاعرهم ويحقق اطمئنانهم إليه فيما يقول‏.‏ فالرائد لا يكذب أهله، والناصح لا يغش قومه‏.‏

‏{‏قال‏:‏ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏}‏‏.‏‏.‏

القولة الواحدة التي جاء بها كل رسول وكانوا قد انحرفوا كما أسلفنا عن عبادة الله الواحد التي هبط بها المؤمنون مع نوح من السفينة‏.‏ ولعل أول خطوة في هذا الإنحراف كانت هي تعظيم ذكرى الفئة المؤمنة القليلة التي حملت في السفينة مع نوح‏!‏ ثم تطور هذا التعظيم جيلاً بعد جيل فإذا أرواحهم المقدسة تتمثل في أشجار وأحجار نافعة؛ ثم تتطور هذه الأشياء فإذا هي معبودات، وإذا وراءها كهنة وسدنة يعبّدون الناس للعباد منهم باسم هذه المعبودات المدعاة في صورة من صور الجاهلية الكثيرة‏.‏ ذلك أن الإنحراف خطوة واحدة عن نهج التوحيد المطلق‏.‏ الذي لا يتجه بشعور التقديس لغير الله وحده ولا يدين بالعبودية إلا لله وحده‏.‏‏.‏ الإنحراف خطوة واحدة لا بد أن تتبعه مع الزمان خطوات وانحرافات لا يعلم مداها إلا الله‏.‏

على أية حال لقد كان قوم هود مشركين لا يدينون لله وحده بالعبودية، فإذا هو يدعوهم تلك الدعوة التي جاء بها كل رسول‏:‏

‏{‏يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏}‏‏.‏‏.‏ ‏{‏إن أنتم إلا مفترون‏}‏‏.‏‏.‏

مفترون فيما تعبدونه من دون الله، وفيما تدعونه من شركاء لله‏.‏

ويبادر هود ليوضح لقومه أنها دعوة خالصة ونصيحة ممحضة، فليس له من ورائها هدف‏.‏ وما يطلب على النصح والهداية أجراً‏.‏ إنما أجره على الله الذي خلقه فهو به كفيل‏:‏

‏{‏يا قوم لا أسألكم عليه أجراً‏.‏ إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون‏؟‏‏}‏‏.‏

مما يشعر أن قوله‏:‏ ‏{‏لا أسألكم عليه أجراً‏}‏ كان بناء على اتهام له أو تلميح بأنه يبتغي أجراً أو كسب مال من وراء الدعوة التي يدعوها‏.‏

وكان التعقيب‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏؟‏‏}‏ للتعجيب من أمرهم وهم يتصورون أن رسولاً من عند الله يطلب رزقاً من البشر، والله الذي أرسله هو الرزاق الذي يقوِّت هؤلاء الفقراء‏!‏

ثم يوجههم إلى الإستغفار والتوبة‏.‏ ويكرر السياق التعبير ذاته الذي ورد في أول السورة على لسان خاتم الأنبياء، ويعدهم هود ويحذرهم ما وعدهم محمد وحذرهم بعد ذلك بالآف السنين‏:‏

‏{‏ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، يرسل السماء عليكم مدراراً، ويزدكم قوة إلى قوتكم‏.‏ ولا تتولوا مجرمين‏}‏‏.‏‏.‏

استغفروا ربكم مما أنتم فيه، وتوبوا إليه فابدأوا طريقاً جديداً يحقق النية ويترجمها إلى عمل يصدق النية‏.‏‏.‏

‏{‏يرسل السماء عليكم مدراراً‏}‏‏.‏‏.‏

وكانوا في حاجة إلى المطر يسقون به زروعهم ودوابهم في الصحراء، ويحتفظون به بالخصب الناشئ من هطول الأمطار في تلك البقاع‏.‏

‏{‏ويزدكم قوة إلى قوتكم‏}‏‏.‏‏.‏

هذه القوة التي عرفتم بها‏.‏‏.‏

‏{‏ولا تتولوا مجرمين‏}‏‏.‏‏.‏

مرتكبين لجريمة التولي والتكذيب‏.‏

وننظر في هذا الوعد‏.‏ وهو يتعلق بإدرار المطر ومضاعفة القوة‏.‏ وهي أمور تجري فيها سنة الله وفق قوانين ثابتة في نظام هذا الوجود، من صنع الله ومشيئته بطبيعة الحال‏.‏ فما علاقة الإستغفار بها وما علاقة التوبة‏؟‏

فأما زيادة القوة فالأمر فيها قريب ميسور، بل واقع مشهود، فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الأرض يزيدان التائبين العاملين قوة‏.‏ يزيدانهم صحة في الجسم بالإعتدال والاقتصار على الطيبات من الرزق وراحة الضمير وهدوء الأعصاب والإطمئنان إلى الله والثقة برحمته في كل آن؛ ويزيدانهم صحة في المجتمع بسيادة شريعة الله الصالحة التي تطلق الناس أحراراً كراماً لا يدينون لغير الله على قدم المساواة بينهم أمام قهار واحد تعنو له الجباه‏.‏‏.‏ كما تطلقان طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلافة في الأرض؛ غير مشغولين ولا مسخرين بمراسم التأليه للأرباب الأرضية وإطلاق البخور حولها ودق الطبول، والنفخ فيها ليل نهار لتملأ فراغ الإله الحق في فطرة البشر‏!‏

والملحوظ دائماً أن الأرباب الأرضية تحتاج ويحتاج معها سدنتها وعبادها أن يخلعوا عليها بعض صفات الألوهية من القدرة والعلم والإحاطة والقهر والرحمة‏.‏‏.‏ أحياناً‏.‏‏.‏ كل ذلك ليدين لها الناس‏!‏ فالربوبية تحتاج إلى ألوهية معها تخضع بها العباد‏!‏ وهذا كله يحتاج إلى كد ناصب من السدنة والعبَّاد وإلى جهد ينفقه من يدينون لله وحده في عمارة الأرض والنهوض بتكاليف الخلافة فيها، بدلاً من أن ينفقه عبَّاد الأرباب الأرضية في الطبل والزمر والتراتيل والتسابيح لهذه الأرباب المفتراة‏!‏

ولقد تتوافر القوة لمن لا يحكّمون شريعة الله في قلوبهم ولا في مجتمعهم، ولكنها قوة إلى حين‏.‏ تنتهي الأمور إلى نهايتها الطبيعية وفق سنة الله، وتتحطم هذه القوة التي لم تستند إلى أساس ركين‏.‏ إنما استندت إلى جانب واحد من السنن الكونية كالعمل والنظام ووفرة الإنتاج‏.‏

وهذه وحدها لا تدوم‏.‏ لأن فساد الحياة الشعورية والاجتماعية يقضي عليها بعد حين‏.‏

فأما إرسال المطر مدراراً‏.‏ فالظاهر للبشر أنه يجري وفق سنن طبيعية ثابتة في النظام الكوني‏.‏ ولكن جريان السنن الطبيعية لا يمنع أن يكون المطر محيياً في مكان وزمان، ومدمراً في مكان وزمان؛ وأن يكون من قدر الله أن تكون الحياة مع المطر لقوم، وأن يكون الدمار معه لقوم، وان ينفذ الله تبشيره بالخير ووعيده بالشر عن طريق توجيه العوامل الطبيعية؛ فهو خالق هذه العوامل، وجاعل الأسباب لتحقيق سنته على كل حال‏.‏ ثم تبقى وراء ذلك مشيئة الله الطليقة التي تصرف الأسباب والظواهر بغير ما اعتاد الناس من ظواهر النواميس وذلك لتحقيق قدر الله كيفما شاء‏.‏ حيث شاء‏.‏ بالحق الذي يحكم كل شيء في السماوات والأرض غير مقيد بما عهده الناس في الغالب‏.‏

تلك كانت دعوة هود ويبدوا أنها لم تكن مصحوبة بمعجزة خارقة‏.‏ ربما لأن الطوفان كان قريباً منهم، وكان في ذاكرة القوم وعلى لسانهم، وقد ذكرهم به في سورة أخرى فأما قومه فظنوا به الظنون‏.‏‏.‏

‏{‏قالوا‏.‏ يا هود ما جئتنا ببينة، وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك، وما نحن لك بمؤمنين‏.‏ إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

إلى هذا الحد بلغ الإنحراف في نفوسهم، إلى حد أن يظنوا أن هوداً يهذي، لأن أحد آلهتهم المفتراة قد مسه بسوء، فأصيب بالهذيان‏!‏

‏{‏يا هود ما جئتنا ببينة‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

والتوحيد لا يحتاج إلى بينة، إنما يحتاج إلى التوجية والتذكير، وإلى استجاشة منطق الفطرة، واستنباء الضمير‏.‏

‏{‏وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك‏}‏‏.‏‏.‏

أي لمجرد أنك تقول بلا بينة ولا دليل‏!‏

‏{‏وما نحن لك بمؤمنين‏}‏‏.‏‏.‏

أي مستجيبين لك ومصدقين‏.‏‏.‏ وما نعلل دعوتك إلا بأنك تهذي وقد أصابك أحد آلهتنا بسوء‏!‏

وهنا لم يبق لهود إلا التحدي‏.‏ وإلا التوجه إلى الله وحده والإعتماد عليه‏.‏ وإلا الوعيد والإنذار الأخير للمكذبين‏.‏ وإلا المفاصلة بينه وبين قومه ونفض يده من أمرهم إن أصروا على التكذيب‏:‏

‏{‏قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون‏.‏ إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دآبة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم‏.‏ فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ‏}‏‏.‏‏.‏

إنها انتفاضة التبرؤ من القوم وقد كان منهم وكان أخاهم وانتفاضة الخوف من البقاء فيهم وقد اتخذوا غير طريق الله طريقاً‏.‏ وانتفاضة المفاصلة بين حزبين لا يلتقيان على وشيجة وقد انبتت بينهما وشيجة العقيدة‏.‏

وهو يشهد الله على براءته من قومه الضالين وانعزاله عنهم وانفصاله منهم‏.‏

ويشهدهم هم أنفسهم على هذه البراءة منهم في وجوههم؛ كي لا تبقى في أنفسهم شبهة من نفوره وخوفه أن يكون منهم‏!‏

وذلك كله مع عزة الإيمان واستعلائه‏.‏ ومع ثقة الإيمان واطمئنانه‏!‏

وإن الإنسان ليدهش لرجل فرد يواجه قوماً غلاظاً شداداً حمقى‏.‏ يبلغ بهم الجهل أن يعتقدوا أن هذه المعبودات الزائفة تمس رجلاً فيهذي؛ ويروا في الدعوة إلى الله الواحد هذياناً من أثر المس‏!‏ يدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة، فيسفه عقيدتهم ويقرعهم عليها ويؤنبهم؛ ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي‏.‏ لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم، ولا يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم‏.‏

إن الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد‏.‏ ولكن الدهشة تزول عندما يتدبر العوامل والأسباب‏.‏‏.‏

إنه الإيمان‏.‏ والثقة‏.‏ والاطمئنان‏.‏‏.‏ الإيمان بالله، والثقة بوعده، والإطمئنان إلى نصره‏.‏‏.‏ الإيمان الذي يخالط القلب فإذا وعد الله بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب لا يشك فيها لحظة‏.‏ لأنها ملء يديه، وملء قلبه الذي بين جنبيه، وليست وعداً للمستقبل في ضمير الغيب، إنما هي حاضر واقع تتملاه العين والقلب‏.‏

‏{‏قال‏:‏ إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه‏}‏‏.‏ إني أشهد الله على براءتي مما تشركون من دونه‏.‏ واشهدوا أنتم شهادة تبرئني وتكون حجة عليكم‏:‏ أنني عالنتكم بالبراءة مما تشركون من دون الله‏.‏ ثم تجتمعوا أنتم وهذه الآلهة التي تزعمون أن أحدها مسني بسوء‏.‏ تجمعوا أنتم وهي جميعاً ثم كيدوني بلا ريث ولا تمهل، فما أباليكم جميعاً، ولا أخشاكم شيئاً‏:‏

‏{‏إني توكلت على الله ربي وربكم‏}‏‏.‏‏.‏

ومهما أنكرتم وكذبتم‏.‏ فهذه الحقيقة قائمة‏.‏ حقيقة ربوبية الله لي ولكم‏.‏ فالله الواحد هو ربي وربكم، لأنه رب الجميع بلا تعدد ولا مشاركة‏.‏‏.‏

‏{‏ما من دابة إلا هو أخذ بناصيتها‏}‏‏.‏‏.‏

وهي صورة محسوسة للقهر والقدرة تصور القدرة آخذة بناصية كل دابة على هذه الأرض، بما فيها الدواب من الناس‏.‏ والناصية أعلى الجبهة‏.‏ فهو القهر والغلبة والهيمنة، في صورة حسية تناسب الموقف، وتناسب غلظة القوم وشدتهم، وتناسب صلابة أجسامهم وبنيتهم، وتناسب غلظ حسهم ومشاعرهم‏.‏‏.‏ وإلى جانبها تقرير استقامة السنة الإلهية في اتجاهها الذي لا يحيد‏:‏

‏{‏إن ربي على صراط مستقيم‏}‏‏.‏‏.‏

فهي القوة والاستقامة والتصميم‏.‏

وفي هذه الكلمات القوية الحاسمة ندرك سر ذلك الإستعلاء وسر ذلك التحدي‏.‏‏.‏ إنها ترسم صورة الحقيقة التي يجدها نبي الله هود عليه السلام في نفسه من ربه‏.‏‏.‏ إنه يجد هذه الحقيقة واضحة‏.‏‏.‏ إن ربه ورب الخلائق قوي قاهر‏:‏ ‏{‏ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها‏}‏‏.‏‏.‏ وهؤلاء الغلاظ الأشداء من قومه إن هم إلا دواب من تلك الدواب التي يأخذ ربه بناصيتها ويقهرها بقوته قهراً‏.‏ فما خوفه من هذه الدواب وما احتفاله بها؛ وهي لا تسلط عليه إن سلطت إلا بإذن ربه‏؟‏ وما بقاؤه فيها وقد اختلف طريقها عن طريقه‏؟‏

إن هذه الحقيقة التي يجدها صاحب الدعوة في نفسه، لا تدع في قلبه مجالاً للشك في عاقبة أمره؛ ولا مجالاً للتردد عن المضي في طريقه‏.‏

إنها حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلوب الصفوة المؤمنة ابداً‏.‏

وعند هذا الحد من التحدي بقوة الله، وإبراز هذه القوة في صورتها القاهرة الحاسمة، يأخذ هود في الإنذار والوعيد‏:‏

‏{‏فإن تولوا فقد ابلغتكم ما أرسلت به إليكم‏}‏‏.‏‏.‏

فأديت واجبي لله، ونفضت يدي من أمركم لتواجهوا قوة الله سبحانه‏:‏

‏{‏ويستخلف ربي قوماً غيركم‏}‏‏.‏‏.‏

يليقون بتلقي دعوته ويستقيمون على هدايته بعد إهلاككم ببغيكم وظلمكم وانحرافكم‏.‏

‏{‏ولا تضرونه شيئاً‏}‏‏.‏‏.‏

فما لكم به من قوة، وذهابكم لا يترك في كونه فراغاً ولا نقصاً‏.‏‏.‏

‏{‏إن ربي على كل شيء حفيظ‏}‏‏.‏‏.‏

يحفظ دينه وأولياءه وسننه من الأذى والضياع، ويقوم عليكم فلا تفلتون ولا تعجزونه هرباً‏!‏ وكانت هي الكلمة الفاصلة‏.‏ وانتهى الجدل والكلام‏.‏ ليحق الوعيد والإنذار‏:‏

‏{‏ولما جاء أمرنا نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة منا‏.‏ ونجيناهم من عذاب غليظ‏}‏‏.‏

لما جاء أمرنا بتحقيق الوعيد، وإهلاك قوم هود، نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمة مباشرة منا، خلصتهم من العذاب العام النازل بالقوم، واستثنتهم من أن يصيبهم بسوء‏.‏ وكانت نجاتهم من عذاب غليظ حل بالمكذبين‏.‏ ووصف العذاب بأنه غليظ بهذا التصوير المجسم، يتناسق مع الجو، ومع القوم الغلاظ العتاة‏.‏

والآن وقد هلكت عاد‏.‏ يشار إلى مصرعها إشارة البعد، ويسجل علهيا ما اقترفت من ذنب، وتشيع باللعنة والطرد، في تقرير وتكرار وتوكيد‏:‏

‏{‏وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد‏.‏ وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة‏.‏ ألا إن عاداً كفروا ربهم‏.‏ ألا بعداً لعاد قوم هود‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏وتلك عاد‏}‏‏.‏‏.‏ بهذا البعد‏.‏ وقد كان ذكرهم منذ لحظة في السياق، وكان مصرعهم معروفاً على الأنظار‏.‏‏.‏ ولكنهم انتهوا وبعدوا عن الأنظار والأفكار‏.‏‏.‏

‏{‏وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله‏}‏‏.‏‏.‏

وهم عصوا رسولاً واحداً‏.‏ ولكن أليست هي رسالة واحدة جاء بها الرسل جميعاً‏؟‏ فمن لم يسلم لرسول بها فقد عصى الرسل جميعاً‏.‏ ولا ننسى أن هذا الجمع في الآيات وفي الرسل مقصود من ناحية أسلوبية أخرى لتضخيم جريمتهم وإبراز شناعتها‏.‏ فهم جحدوا آيات، وهم عصوا رسلاً‏.‏ فما أضخم الذنب وما أشنع الجريمة‏!‏

‏{‏واتبعوا أمر كل جبار عنيد‏}‏‏.‏‏.‏

امر كل متسلط عليهم، معاند لا يسلم بحق، وهم مسؤولون أن يتحرروا من سلطان المتسلطين، ويفكروا بأنفسهم لأنفسهم‏.‏ ولا يكونوا ذيولاً فيهدروا آدميتهم‏.‏

وهكذا يتبين أن القضية بين هود وعاد كانت قضية ربوبية الله وحده لهم والدينونة لله وحده من دون العباد‏.‏‏.‏ كانت هي قضية الحاكمية والاتباع‏.‏

‏.‏ كانت هي قضية‏:‏ من الرب الذي يدينون له ويتبعون أمره‏؟‏ يتجلى هذا في قول الله تعالى‏:‏

‏{‏وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله، واتبعوا أمر كل جبار عنيد‏}‏‏.‏‏.‏

فهي المعصية لأمر الرسل والاتباع لأمر الجبارين‏!‏ والإسلام هو طاعة أمر الرسل لأنه أمر الله ومعصية أمر الجبارين‏.‏ وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية والإسلام وبين الكفر والإيمان‏.‏‏.‏ في كل رسالة وعلى يد كل رسول‏.‏

وهكذا يتبين أن دعوة التوحيد تصر أول ما تصر على التحرر من الدينونة لغير الله؛ والتمرد على سلطان الأرباب الطغاة؛ وتعد إلغاء الشخصية والتنازل عن الحرية، واتباع الجبارين المتكبرين جريمة شرك وكفر يستحق عليها الخانعون الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة‏.‏ لقد خلق الله الناس ليكونوا أحراراً لا يدينون بالعبودية لأحد من خلقه، ولا ينزلون عن حريتهم هذه لطاغية ولا رئيس ولا زعيم‏.‏ فهذا مناط تكريمهم‏.‏ فإن لم يصونوه فلا كرامة لهم عند الله ولا نجاة‏.‏ وما يمكن لجماعة من البشر أن تدعي الكرامة، وتدعي الإنسانية، وهي تدين لغير الله من عباده‏.‏ والذين يقبلون الدينونة لربوبية العبيد وحاكميتهم ليسوا بمعذورين أن يكونوا على أمرهم مغلوبين‏.‏ فهم كثرة والمتجبرون قلة‏.‏ ولو أرادوا التحرر لضحوا في سبيله بعض ما يضحونه مرغمين للأرباب المتسلطين من ضرائب الذل في النفس والعرض والمال‏.‏

لقد هلكت عاد لأنهم اتبعوا امر كل جبار عنيد‏.‏‏.‏ هلكلوا مشيعين باللعنة في الدنيا وفي الآخرة‏:‏

‏{‏وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة‏}‏‏.‏‏.‏

ثم لا يتركهم قبل أن يسجل عليهم حالهم وسبب ما أصابهم في إعلان عام وتنبيه عال‏:‏

‏{‏ألا إن عاداً كفروا ربهم‏}‏‏.‏‏.‏

ثم يدعو عليهم بالطرد والبعد البعيد‏:‏

‏{‏ألا بعداً لعاد قوم هود‏}‏‏.‏‏.‏

بهذا التحديد والإيضاح والتوكيد‏.‏ كأنما يحدد عنوانهم للعنة المرسلة عليهم حتى تقصدهم قصداً‏:‏

‏{‏ألا بعداً لعاد قوم هود‏}‏ ‏!‏‏!‏‏!‏

ونقف وقفات قصيرة أمام ما تلهمه قصة هود مع قومه في سياق هذه السورة، قبل ان ننتقل منها إلى قصة صالح‏.‏ ذلك أن استعراض خط سير الدعوة الإسلامية على هذا النحو إنما يجيء في القرآن الكريم لرسم معالم الطريق في خط الحركة بهذه العقيدة على مدار القرون‏.‏‏.‏ ليس فقط في ماضيها التاريخي، ولكن في مستقبلها إلى آخر الزمان‏.‏ وليس فقط للجماعة المسلمة الأولى التي تلقت هذا القرآن أول مرة‏.‏ وتحركت به في وجه الجاهلية يومذاك؛ ولكن كذلك لكل جماعة مسلمة تواجه به الجاهلية إلى آخر الزمان‏.‏‏.‏ وهذا ما يجعل هذا القرآن كتاب الدعوة الإسلامية الخالد؛ ودليلها في الحركة في كل حين‏.‏

ولقد أشرنا إشارات سريعة إلى اللمسات القرآنية التي سنعيد الحديث عنها كلها تقريباً‏.‏‏.‏ ولكنها مرت في مجال تفسير النصوص القرآنية مروراً عابراً لمتابعة السياق‏.‏ وهي تحتاج إلى وقفات امامها أطول في حدود الإجمال‏:‏

* نقف أمام الدعوة الواحدة الخالدة على لسان كل رسول وفي كل رسالة‏.‏

‏.‏ ودعوة توحيد العبادة والعبودية لله، المتمثلة فيما يحكيه القرآن الكريم عن كل رسول‏:‏ ‏{‏قال‏:‏ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏}‏‏.‏‏.‏ ولقد كنا دائماً نفسر «العبادة» لله وحده بأنها «الدينونة الشاملة» لله وحده‏.‏ في كل شأن من شؤون الدنيا والآخرة‏.‏ ذلك أن هذا هو المدلول الذي تعطيه اللفظة في أصلها اللغوي‏.‏‏.‏ فإن «عبد» معناها‏:‏ دان وخضع وذلل‏.‏ وطريق معبد طريق مذلل ممهد‏.‏ وعبّده جعله عبداً أي خاضعاً مذللاً‏.‏‏.‏ ولم يكن العربي الذي خوطب بهذا القرآن اول مرة يحصر مدلول هذا اللفظ وهو يؤمر به في مجرد أداء الشعائر التعبدية‏.‏ بل إنه يوم خوطب به أول مرة في مكة لم تكن قد فرضت بعد شعائر تعبدية‏!‏ إنما كان يفهم منه عندما يخاطب به ان المطلوب منه هو الدينونة لله وحده في أمره كله؛ وخلع الدينونة لغير الله من عنقه في كل أمره‏.‏‏.‏ ولقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم «العبادة» نصاً بأنها هي «الاتباع» وليست هي الشعائر التعبدية‏.‏ وهو يقول لعدي ابن حاتم عن اليهود والنصارى واتخاذهم الأحبار والرهبان أرباباً‏:‏ «بلى‏.‏ إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال‏.‏ فاتبعوهم‏.‏ فذلك عبادتهم إياهم»‏.‏ إنما أطلقت لفظة «العبادة» على «الشعائر التعبدية» باعتبارها صورة من صور الدينونة لله في شأن من الشؤون‏.‏‏.‏ صورة لا تستغرق مدلول «العبادة» بل إنها تجيء بالتبعية لا بالأصالة‏!‏ فلما بهت مدلول «الدين» ومدلول «العبادة» في نفوس الناس صاروا يفهمون أن عبادة غير الله التي يخرج بها الناس من الإسلام إلى الجاهلية هي فقط تقديم الشعائر التعبدية لغير الله، كتقديمها للأصنام والأوثان مثلاً‏!‏ وأنه متى تجنب الإنسان هذه الصورة فقد بعد عن الشرك والجاهلية وأصبح «مسلماً» لا يجوز تكفيره‏!‏ وتمتع بكل ما يتمتع به المسلم في المجتمع المسلم من صيانة دمه وعرضه وماله‏.‏‏.‏‏.‏ إلى أخر حقوق المسلم على المسلم‏!‏

وهذا وهم باطل، وانحسار وانكماش، بل تبديل وتغيير في مدلول لفظ «العبادة» التي يدخل بها المسلم في الإسلام أو يخرج منه وهذا المدلول هو الدينونة الكاملة لله في كل شأن ورفض الدينونة لغير الله في كل شأن‏.‏ وهو المدلول الذي تفيده اللفظة في أصل اللغة؛ والذي نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم نصاً وهو يفسر قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله‏}‏ وليس بعد تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصطلح من المصطلحات قول لقائل‏.‏

هذه الحقيقة هي التي قررناها كثيراً في هذه الظلال وفي غيرها في كل ما وفقنا الله لكتابته حول هذا الدين وطبيعته ومنهجه الحركي‏.‏ فالآن نجد في قصة هود كما تعرضها هذه السورة لمحة تحدد موضوع القضية ومحور المعركة التي كانت بين هود وقومه؛ وبين الإسلام الذي جاء به والجاهلية التي كانوا عليها؛ وتحدد ما الذي كان يعنيه وهو يقول لهم‏:‏ «يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره»‏.‏‏.‏

إنه لم يكن يعني‏:‏ يا قوم لا تتقدموا بالشعائر التعبدية لغير الله‏!‏ كما يتصور الذين انحسر مدلول «العبادة» في مفهوماتهم، وانزوى داخل إطار الشعائر التعبدية‏!‏ إنما كان يعني الدينونة لله وحده في منهج الحياة كلها؛ ونبذ الدينونة والطاعة لأحد من الطواغيت في شؤون الحياة كلها‏.‏‏.‏ والفعلة التي من أجلها استحق قوم هود الهلاك واللعنة في الدنيا والآخرة لم تكن هي مجرد تقديم الشعائر التعبدية لغير الله‏.‏‏.‏ فهذه صورة واحدة من صور الشرك الكثيرة التي جاء هود ليخرجهم منها إلى عبادة الله وحده أي الدينونة له وحده إنما كانت الفعلة النكراء التي استحقوا من أجلها ذلك الجزاء هي‏:‏ جحودهم بآيات ربهم، وعصيان رسله‏.‏ واتباع أمر الجبارين من عبيده‏:‏ ‏{‏وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم، وعصوا رسله، واتبعوا أمر كل جبار عنيد‏}‏‏.‏ كما يقول عنهم أصدق القائلين الله رب العالمين‏.‏‏.‏

وجحودهم بآيات ربهم إنما يتجلى في عصيان الرسل، واتباع الجبارين‏.‏‏.‏ فهو أمر واحد لا أمور متعددة‏.‏‏.‏ ومتى عصى قوم أوامر الله المتمثلة في شرائعه المبلغة لهم من رسله بألا يدينوا لغير الله‏.‏ ودانوا للطواغيت بدلاً من الدينونة لله؛ فقد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله؛ وخرجوا بذلك من الإسلام إلى الشرك وقد تبين لنا من قبل أن الإسلام هو الأصل الذي بدأت به حياة البشر على الأرض؛ فهو الذي نزل به آدم من الجنة واستخلف في هذه الأرض؛ وهو الذي نزل به نوح من السفينة واستخلف في هذه الأرض‏.‏ إنما كان الناس يخرجون من الإسلام إلى الجاهلية، حتى تأتي إليهم الدعوة لتردهم من الجاهلية إلى الإسلام‏.‏‏.‏ وهكذا إلى يومنا هذا‏.‏‏.‏

والواقع أنه لو كانت حقيقة العبادة هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب الكريم من الرسل والرسالات؛ وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدارالزمان‏!‏ إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد‏.‏ وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن؛ وفي منهج حياتهم كله للدنيا والآخرة سواء‏.‏

إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامه، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونه الشاملة‏.‏

‏.‏‏.‏ إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من اجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود؛ وأن تحتمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان‏.‏‏.‏ لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه، فالله سبحانه غني عن العالمين‏.‏ ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياة لائقة «بالإنسان» إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتاثيره في الحياة البشرية في كل جانب من جوانبها‏.‏ ‏(‏وهذا ما نرجو أن نزيده بياناً إن شاء الله في نهاية قصص الرسل في ختام السورة‏)‏‏.‏‏.‏

* ونقف أمام الحقيقة التي كشف عنها هود لقومه وهو يقول لهم‏:‏ ‏{‏ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة إلى قوتكم، ولا تتولوا مجرمين‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ وهي ذات الحقيقة التي ذكرت في مقدمة السورة بصدد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه بمضمون الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير‏.‏ وذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير‏}‏ إنها حقيقة العلاقة بين القيم الإيمانية والقيم الواقعية في الحياة البشرية، وحقيقة اتصال طبيعة الكون ونواميسه الكلية بالحق الذي يحتويه هذا الدين‏.‏‏.‏‏.‏ وهي حقيقة في حاجة إلى جلاء وتثبيت؛ وبخاصة في نفوس الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا؛ والذين لم تصقل أرواحهم وتشف حتى ترى هذه العلاقة أو على الأقل تستشعرها‏.‏‏.‏

إن الحق الذي نزل به هذا الدين غير منفصل عن الحق المتمثل في ألوهية الله سبحانه والحق الذي خلقت به السماوات والأرض، المتجلي في طبيعة هذا الكون ونواميسه الأزلية‏.‏‏.‏ والقرآن الكريم كثيراً ما يربط بين الحق المتمثل في ألوهية الله سبحانه والحق الذي قامت به السماوات والأرض؛ والحق المتمثل في الدينونة لله وحده‏.‏‏.‏ والحق المتمثل في دينونة الناس لله يوم الحساب بصفة خاصة، والحق في الجزاء على الخير والشر في الدنيا والآخرة‏.‏‏.‏ وذلك في مثل هذه النصوص‏:‏

‏{‏وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين‏.‏ لو أردنآ أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا‏.‏‏.‏ إن كنا فاعلين‏.‏‏.‏‏.‏ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، ولكم الويل مما تصفون، وله من في السماوات والأرض، ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون‏.‏ يسبحون الليل والنهار لا يفترون‏.‏ أم اتخذوا آلهة من الأرض هم يُنشرون، لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون‏.‏ لا يسأل عما يفعل وهم يسألون‏.‏ أم اتخذوا من دونه آلهة قل‏:‏ هاتوا برهانكم‏.‏ هذا ذكر من معي وذكر من قبلي، بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون‏.‏ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون‏}‏

‏[‏الأنبياء‏:‏ 16 25‏]‏

‏{‏يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، لنبين لكم، ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى، ثم نخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم، ومنكم من يتوفى، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً، وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج‏.‏‏.‏ ذلك بأن الله هو الحق، وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5 7‏]‏‏.‏

‏{‏وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم، وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم‏.‏ ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم‏.‏ الملك يومئذ، لله يحكم بينهم، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات النعيم‏.‏ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب مهين‏.‏ والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً، وإن الله لهو خير الرازقين، ليدخلنهم مدخلاً يرضونه وإن الله لعليم حليم‏.‏ ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله، إن الله لعفو غفور، ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل، وأن الله سميع بصير‏.‏ ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، وأن الله هو العلي الكبير‏.‏ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة‏؟‏ إن الله لطيف خبير‏.‏ له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد‏.‏ ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، إن الله بالناس لرؤوف رحيم‏.‏ وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم، إن الإنسان لكفور‏.‏ لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه، فلا ينازعنك في الأمر، وادع إلى ربك، إنك لعلى هدى مستقيم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 54- 67‏]‏‏.‏

وهكذا نجد في هذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم العلاقة الواضحة بين كون الله سبحانه هو الحق، وبين خلقه لهذا الكون وتدبيره بنواميسه ومشيئته بالحق، وبين الظواهر الكونية التي تتم بالحق‏.‏ وبين تنزيل هذا الكتاب بالحق، وبين الحكم بين الناس في الدنيا والآخرة بالحق‏.‏

‏.‏ فكله حق واحد موصول ينشأ عنه جريان قدر الله بما يشاء، وتسليط القوى الكونية بالخير والشر على من يشاء؛ وفق ما يكون من الناس من الخير والشر في دار الابتلاء‏.‏ ومن هنا كان ذلك الربط بين الاستغفار والتوبة، وبين المتاع الحسن وإرسال السماء مدراراً‏.‏‏.‏‏.‏ فكل أولئك موصول بمصدر واحد هو الحق المتمثل في ذات الله سبحانه وفي قضائه وقدره، وفي تدبيره وتصريفه، وفي حسابه وجزائه، في الخير وفي الشر سواء‏.‏‏.‏

ومن هذا الارتباط يتجلى أن القيم الإيمانية ليست منفصلة عن القيم العملية في حياة الناس‏.‏ فكلتاهما تؤثر في هذه الحياة‏.‏ سواء عن طريق قدر الله الغيبي المتعلق بعالم الأسباب من وراء علم البشر وسعيهم‏.‏ أو عن طريق الآثار العملية المشهودة التي يمكن للبشر رؤيتها وضبطها كذلك‏.‏ وهي الآثار التي ينشئها في حياتهم الإيمان أو عدم الإيمان، من النتائج المحسوسة المدركة‏.‏

وقد أسلفنا الإشارة إلى بعض هذه الآثار العملية الواقعية حين قلنا مرة‏:‏ إن سيادة المنهج الإلهي في مجتمع معناه أن يجد كل عامل جزاءه العادل في هذا المجتمع، وان يجد كل فرد الأمن والسكينة والاستقرار الاجتماعي فضلاً على الأمن والسكينة والاستقرار القلبي بالإيمان ومن شأن هذا كله أن يمتع الناس متاعاً حسناً في هذه الدنيا قبل أن يلقوا جزاءهم الأخير في الآخرة‏.‏‏.‏ وحين قلنا مرة‏:‏ إن الدينونة لله وحده في مجتمع من شأنها أن تصون جهود الناس وطاقاتهم من أن تنفق في الطبل والزمر والنفخ والتراتيل والتسابيح والترانيم والتهاويل التي تطلق حول الأرباب المزيفة، لتخلع عليها شيئاً من خصائص الألوهية حتى تخضع لها الرقاب‏!‏ ومن شأن هذا أن يوفر هذه الجهود والطاقات للبناء في الأرض والعمارة والنهوض بتكاليف الخلافة فيكون الخير الوفير للناس‏.‏ فضلاً على الكرامة والحرية والمساواة التي يتمتع بها الناس في ظل الدينونة لله وحده دون العباد‏.‏‏.‏ وليست هذه إلا نماذج من ثمار الإيمان حين تتحقق حقيقته في حياة الناس‏.‏‏.‏ ‏(‏وسيرد عنها بعض التفصيل في نهاية استعراض قصص الرسل في ختام السورة إن شاء الله‏)‏‏.‏

* ونقف أمام تلك المواجهة الأخيرة من هود لقومه؛ وأمام تلك المفاصلة التي قذف بها في وجوههم في حسم كامل، وفي تحد سافر، وفي استعلاء بالحق الذي معه، وثقة في ربه الذي يجد حقيقته في نفسه بينة‏:‏

‏{‏قال‏:‏ إني أشهد الله، واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون‏.‏ إني توكلت على الله ربي وربكم، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم‏.‏ فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً، إن ربي على كل شيء حفيظ‏}‏‏.‏‏.‏

إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلاً أمام هذا المشهد الباهر‏.‏

‏.‏ رجل واحد، لم يؤمن معه إلا قليل، يواجه أعتى أهل الأرض وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم، كما جاء عنهم في قول الله تعالى فيهم حكاية عما واجههم به أخوهم هود في السورة الأخرى‏:‏

‏{‏كذبت عاد المرسلين‏.‏ إذ قال لهم أخوهم هود‏:‏ ألا تتقون‏؟‏ إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون‏.‏ وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين‏.‏ أتبنون بكل ريع آية تعبثون‏؟‏ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون‏.‏ وإذا بطشتم بطشتم جبارين‏.‏ فاتقوا الله وأطيعون‏.‏ واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون‏.‏ أمدكم بأنعام وبنين‏.‏ وجنات وعيون‏.‏ إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم‏.‏ قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين‏.‏ إن هذا إلا خلق الأولين‏.‏ وما نحن بمعذبين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 123 138‏]‏

فهؤلاء العتاة الجبارون الذين يبطشون بلا رحمة؛ والذين أبطرتهم النعمة؛ والذين يقيمون المصانع يرجون من ورائها الامتداد والخلود‏!‏‏.‏‏.‏ هؤلاء هم الذين واجههم هود عليه السلام هذه المواجهة‏.‏ في شجاعة المؤمن واستعلائه وثقته واطمئنانه؛ وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة وهم قومه وتحداهم أن يكيدوه بلا إمهال‏.‏ وأن يفعلوا ما في وسعهم فلا يباليهم بحال‏!‏

لقد وقف هود عليه السلام هذه الوقفة الباهرة، بعدما بذل لقومه من النصح ما يملك؛ وبعد أن تودد إليهم وهو يدعوهم غاية التودد‏.‏‏.‏ ثم تبين له عنادهم وإصرارهم على محادة الله وعلى الاستهتار بالوعيد والجرأة على الله‏.‏‏.‏

لقد وقف هود عليه السلام هذه الوقفة الباهرة لأنه يجد حقيقة ربه في نفسه، فيوقن أن أولئك الجبارين العتاة المتمتعين المتبطرين إنما هم من الدواب‏!‏ وهو مستيقن أنه ما من دابة إلا وربه آخذ بناصيتها؛ ففيم يحفل إذن هؤلاء الدواب‏؟‏‏!‏ وأن ربه هو الذي استخلفهم في الأرض، وأعطاهم من نعمة ومال وقوة وبنين وقدرة على التصنيع والتعدين‏!‏ للابتلاء لا لمطلق العطاء‏.‏ وأن ربه يملك أن يذهب بهم ويستخلف غيرهم إذا شاء، ولا يضرونه شيئاً، ولا يردون له قضاء‏.‏‏.‏ ففيم إذن يهوله شيء مما هم فيه، وربه هو الذي يعطي ويسلب حين يشاء كيف يشاء‏؟‏‏.‏‏.‏

إن أصحاب الدعوة إلى الله لا بد أن يجدوا حقيقة ربهم في نفوسهم على هذا النحو حتى يملكوا أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم‏.‏‏.‏ أمام القوة المادية‏.‏ وقوة الصناعة‏.‏ وقوة المال‏.‏ وقوة العلم البشري‏.‏ وقوة الأنظمة والأجهزة والتجارب والخبرات‏.‏‏.‏ وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة؛ وأن الناس كل الناس إن هم إلا دواب من الدواب‏!‏

وذات يوم لا بد أن يقف أصحاب الدعوة من قومهم موقف المفاصلة الكاملة؛ فإذا القوم الواحد أمتان مختلفتان‏.‏

‏.‏ أمة تدين لله وحده وترفض الدينونة لسواه‏.‏ وأمة تتخذ من دون الله أرباباً، وتحاد الله‏!‏

ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد الله بالنصر لأوليائه، والتدمير على أعدائه في صورة من الصور التي قد تخطر وقد لا تخطر على البال ففي تاريخ الدعوة إلى الله على مدار التاريخ‏!‏ لم يفصل الله بين أوليائه وأعدائه إلا بعد أن فاصل أولياؤه أعداءه على أساس العقيدة فاختاروا الله وحده‏.‏‏.‏ وكانوا هم حزب الله الذين لا يعتمدون على غيره والذين لا يجدون لهم ناصراً سواه‏.‏

وحسبنا هذه الوقفات مع إلهامات قصة هود وعاد‏.‏ لنتابع بعدها سياق السورة مع قصة صالح وثمود‏.‏

‏{‏وإلى ثمود أخاهم صالحا‏.‏ قال‏:‏ يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏.‏ هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها‏.‏ فاستغفروه ثم توبوا إليه، إن ربي قريب مجيب‏}‏‏.‏‏.‏

إنها الكلمة التي لا تتغير‏:‏

‏{‏يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏}‏‏.‏‏.‏

وإنه كذلك المنهج الذي لا يتبدل‏:‏

‏{‏فاستغفروه ثم توبوا إليه‏}‏‏.‏‏.‏

ثم هو التعريف بحقيقة الألوهية كما يجدها في نفسه الرسول‏:‏

‏{‏إن ربي قريب مجيب‏}‏‏.‏‏.‏

وذكرهم صالح بنشأتهم من الأرض‏.‏ نشأة جنسهم، ونشأة أفرادهم من غذاء الأرض أو من عناصرها التي تتألف منها عناصر تكوينهم الجسدي‏.‏ ومع أنهم من هذه الأرض‏.‏ من عناصرها‏.‏ فقد استخلفهم الله فيها ليعمروها‏.‏ استخلفهم بجنسهم واستخلفهم بأشخاصهم بعد الذاهبين من قبلهم‏.‏

ثم هم بعد ذلك يشركون معه آلهة اخرى‏.‏‏.‏

‏{‏فاستغفروه ثم توبوا إليه‏}‏‏.‏‏.‏

واطمئنوا إلى استجابته وقبوله‏:‏

‏{‏إن ربي قريب مجيب‏}‏‏.‏‏.‏

والإضافة في ‏{‏ربي‏}‏ ولفظ ‏{‏قريب‏}‏ ولفظ ‏{‏مجيب‏}‏ واجتماعها وتجاورها‏.‏‏.‏ ترسم صورة لحقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة، وتخلع على الجو أنساً واتصالاً ومودة، تنتقل من قلب النبي الصالح إلى قلوب مستمعيه لو كانت لهم قلوب‏!‏

ولكن قلوب القوم كانت قد بلغت من الفساد والاستغلاق والانطماس درجة لا تستشعر معها جمال تلك الصورة ولا جلالها، ولا تحس بشاشة هذا القول الرفيق، ولا وضاءة هذا الجو الطليق‏.‏‏.‏ وإذا بهم يفاجأون، حتى ليظنون بأخيهم صالح الظنون‏!‏

‏{‏قالوا‏:‏ يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا‏!‏ أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا‏؟‏ وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب‏}‏‏.‏‏.‏

لقد كان لنا رجاء فيك‏.‏ كنت مرجواً فينا لعلمك أو لعقلك أو لصدقك أو لحسن تدبيرك، أو لهذا جميعه‏.‏ ولكن هذا الرجاء قد خاب‏.‏‏.‏

‏{‏أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا‏}‏‏.‏‏.‏

إنها للقاصمة‏!‏ فكل شيء يا صالح إلا هذا‏!‏ وما كنا لنتوقع أن تقولها‏!‏ فيا لخيبة الرجاء فيك‏!‏ ثم إننا لفي شك مما تدعونا إليه‏.‏ شك يجعلنا نرتاب فيك وفيما تقول‏:‏

‏{‏إننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب‏}‏‏.‏‏.‏

وهكذا يعجب القوم مما لا عجب فيه؛ بل يستنكرون ما هو واجب وحق، ويدهشون لأن يدعوهم أخوهم صالح إلى عبادة الله وحده‏.‏

لماذا‏؟‏ لا لحجة ولا لبرهان ولا لتفكير‏.‏ ولكن لأن آباءهم يعبدون هذه الآلهة‏!‏

وهكذا يبلغ التحجر بالناس أن يعجبوا من الحق البين‏.‏ وأن يعللوا العقائد بفعل الآباء‏!‏

وهكذا يتبين مرة وثانية وثالثة أن عقيدة التوحيد هي في صميمها دعوة للتحرر الشامل الكامل الصحيح‏.‏ ودعوة إلى إطلاق العقل البشري من عقال التقليد، ومن أوهاق الوهم والخرافة التي لا تستند إلى دليل‏.‏

وتذكرنا قولة ثمود لصالح‏:‏

‏{‏قد كنت فينا مرجواً قبل هذا‏}‏‏.‏‏.‏

تذكرنا بما كان لقريش من ثقة بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وأمانته‏.‏ فلما أن دعاهم إلى ربوبية الله وحده تنكروا له كما تنكر قوم صالح، وقالوا‏:‏ ساحر‏.‏ وقالوا‏:‏ مفتر‏.‏ ونسوا شهادتهم له وثقتهم فيه‏!‏

إنها طبيعة واحدة، ورواية واحدة تتكرر على مدى العصور والدهور‏.‏‏.‏

ويقول صالح كما قال جده نوح‏:‏

‏{‏قال‏:‏ يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة، فمن ينصرني من الله إن عصيته‏؟‏ فما تزيدونني غير تخسير‏}‏‏.‏‏.‏

يا قوم‏:‏ ماذا ترون إن كنت أجد في نفسي حقيقة ربي واضحة بينة، تجعلني على يقين من أن هذا هو الطريق‏؟‏ وآتاني منه رحمة فاختارني لرسالته وأمدني بالخصائص التي تؤهلني لها‏.‏ فمن ينصرني من الله إن أنا عصيته فقصرت في إبلاغكم دعوته، احتفاظاً برجائكم فيّ‏؟‏ أفنافعي هذا الرجاء وناصري من الله‏؟‏ كلا‏:‏

‏{‏فمن ينصرني من الله إن عصيته‏؟‏ فما تزيدونني غير تخسير‏}‏‏.‏‏.‏

ما تزيدونني إلا خسارة على خسارة‏.‏‏.‏ غضب الله وحرماني شرف الرسالة وخزي الدنيا وعذاب الآخرة‏.‏ وهي خسارة بعد خسارة‏.‏ ولا شيء إلا التخسير‏!‏ والتثقيل والتشديد‏!‏

‏{‏ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية، فذروها تأكل في أرض الله، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب‏}‏

ولا يذكر السياق صفة لهذه الناقة التي اشار إليها صالح لتكون آية لهم وعلامة‏.‏ ولكن في إضافتها لله‏:‏ ‏{‏هذه ناقة الله‏}‏ وفي تخصيصها لهم‏:‏ ‏{‏لكم آية‏}‏ ما يشير إلى أنها كانت ذات صفة خاصة مميزة، يعلمون بها أنها آية لهم من الله‏.‏ ونكتفي بهذا دون الخوض في ذلك الخضم من الأساطير والإسرائيليات التي تفرقت بها أقوال المفسرين حول ناقة صالح فيما مضى وفيما سيجيء‏!‏

‏{‏هذه ناقة الله لكم آية‏.‏ فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء‏}‏‏.‏‏.‏

وإلا فسيعاجلكم العذاب‏.‏ يدل على هذه المعالجة فاء الترتيب في العبارة‏.‏ ولفظ قريب‏:‏

‏{‏فيأخذكم عذاب قريب‏}‏‏.‏‏.‏

يأخذكم أخذاً‏.‏ وهي حركة أشد من المس أو الوقوع‏.‏

‏{‏فعقروها‏.‏‏.‏ فقال‏:‏ تمتعوا في داركم ثلاثة أيام‏.‏ ذلك وعد غير مكذوب‏}‏‏.‏‏.‏

ودل عقرهم للناقة، أي ضربهم لها بالسيف في قوائمها وقتلها على هذا النحو‏.‏ دل على فساد قلوبهم واستهتارهم‏.‏

والسياق هنا لا يطيل بين إعطائهم الناقة وعقرهم إياها، لأنها لم تحدث في نفوسهم تجاه الدعوة تغييراً يذكر‏.‏ ثم ليتابع السياق عجلة العذاب‏.‏ فهو يعبر هنا بفاء التعقيب في كل الخطوات‏:‏

‏{‏فعقروها‏.‏ فقال‏:‏ تمتعوا في داركم ثلاثة أيام‏}‏‏.‏‏.‏

فهي آخر ما بقي لكم من متاع هذه الدنيا ومن أيام هذه الحياة‏:‏

‏{‏ذلك وعد غير مكذوب‏}‏‏.‏‏.‏

فهو وعد صادق لن يحيد

وبالفاء التعقيبية يعبر كذلك‏.‏ فالعذاب لم يتأخر‏:‏

‏{‏فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا ومن خزي يومئذ، إن ربك هو القوي العزيز، وأخذ الذين ظلموا الصيحة، فأصبحوا في ديارهم جاثمين‏}‏‏.‏‏.‏

فلما جاء موعد تحقيق الأمر وهو الإنذار أو الإهلاك نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا‏.‏‏.‏ خاصة ومباشرة‏.‏‏.‏ نجيناه من الموت ومن خزي ذلك اليوم، فقد كانت ميتة ثمود ميتة مخزية، وكان مشهدهم جاثمين في دورهم بعد الصاعقة المدوية التي تركتهم موتى على هيئتهم مشهداً مخزياً‏.‏

‏{‏إن ربك هو القوي العزيز‏}‏‏.‏‏.‏

يأخذ العتاة أخذاً ولا يعز عليه أمر، ولا يهون من يتولاه ويرعاه‏.‏

ثم يعرض السياق مشهدهم، معجّباً منهم، ومن سرعة زوالهم‏:‏

‏{‏كأن لم يغنوا فيها‏}‏‏.‏‏.‏

كان لم يقيموا ويتمتعوا‏.‏‏.‏ وإنه لمشهد مؤثر، وإنها للمسة مثيرة، والمشهد معروض، وما بين الحياة والموت بعد أن يكون إلا لمحة كومضة العين، وإذا الحياة كلها شريط سريع‏.‏ كأن لم يغنوا فيها‏.‏‏.‏

ثم الخاتمة المعهودة في هذه السورة‏:‏ تسجيل الذنب، وتشييع اللعنة، وانطواء الصفحة من الواقع ومن الذكرى‏:‏

‏{‏ألا إن ثمود كفروا ربهم‏.‏ ألا بعداً لثمود‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

ومرة أخرى نجدنا أمام حلقة من حلقات الرسالة على مدار التاريخ‏.‏‏.‏ الدعوة فيها هي الدعوة‏.‏ وحقيقة الإسلام فيها هي حقيقته‏.‏‏.‏ عبادة الله وحده بلا شريك، والدينونة لله وحده بلا منازع‏.‏‏.‏ ومرة اخرى نجد الجاهلية التي تعقب الإسلام، ونجد الشرك الذي يعقب التوحيد فثمود كعاد هم من ذراري المسلمين الذين نجوا في السفينة مع نوح ولكنهم انحرفوا فصاروا إلى الجاهلية، حتى جاءهم صالح ليردهم إلى الإسلام من جديد‏.‏‏.‏

ثم نجد أن القوم يواجهون الآية الخارقة التي طلبوها، لا بالإيمان والتصديق، ولكن بالجحود وعقر الناقة‏!‏

ولقد كان مشركوا العرب يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وسلم خارقة كالخوارق السابقة كي يؤمنوا‏.‏ فها هم أولاء قوم صالح قد جاءتهم الخارقة التي طلبوا‏.‏ فما أغنت معهم شيئاً‏!‏ إن الإيمان لا يحتاج إلى الخوارق‏.‏ إنه دعوة بسيطة تتدبرها القلوب والعقول‏.‏ ولكن الجاهلية هي التي تطمس على القلوب والعقول‏:‏ ‏!‏‏!‏‏!‏

ومرة أخرى نجد حقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة‏.‏ قلوب الرسل الكرام‏.‏ نجدها في قولة صالح التي يحكيها عنه القرآن الكريم‏:‏ ‏{‏قال‏:‏ يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي، وآتاني منه رحمة، فمن ينصرني من الله إن عصيته‏؟‏ فما تزيدونني غير تخسير‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏

‏.‏ وذلك بعد أن يصف لهم ربه كما يجده في قلبه‏:‏ ‏{‏إن ربي قريب مجيب‏}‏‏.‏‏.‏

وما تتجلى حقيقة الألوهية قط في كمالها وجلالها وروائها وجمالها كما تتجلى في قلوب تلك الصفوة المختارة من عباده‏.‏ فهذه القلوب هي المعرض الصافي الرائق الذي تتجلى فيه هذه الحقيقة على هذا النحو الفريد العجيب‏!‏

ثم نقف من القصة أمام الجاهلية التي ترى في الرشد ضلالاً؛ وفي الحق عجيبة لا تكاد تتصورها‏!‏ فصالح الذي كان مرجواً في قومه، لصلاحه ولرجاحة عقله وخلقه، يقف منه قومه موقف اليائس منه، المفجوع فيه‏!‏ لماذا‏؟‏ لأنه دعاهم إلى الدينونة لله وحده‏.‏ على غير ما ورثوا عن آبائهم من الدينونة لغيره‏!‏

إن القلب البشري حين ينحرف شعرة واحدة عن العقيدة الصحيحة، لا يقف عند حد في ضلاله وشروده‏.‏ حتى إن الحق البسيط الفطري المنطقي ليبدو عنده عجيبة العجائب التي يعجز عن تصورها؛ بينما هو يستسيغ الانحراف الذي لا يستند إلى منطق فطري أو منطق عقلي على الإطلاق‏!‏

إن صالحاً يناديهم‏:‏ ‏{‏يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏.‏‏.‏ هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏‏.‏ فهو يناديهم بما في نشأتهم ووجودهم في الأرض من دليل فطري منطقي لا يملكون له رداً‏.‏‏.‏ وهم ما كانوا يزعمون أنهم هم أنشأوا أنفسهم، ولا أنهم هم كفلوا لأنفسهم البقاء، ولا أعطوا أنفسهم هذه الأرزاق التي يستمتعون بها في الأرض‏.‏‏.‏

وظاهر أنهم لم يكونوا يجحدون أن الله سبحانه هو الذي أنشأهم من الأرض، وهو الذي أقدرهم على عمارتها‏.‏ ولكنهم ما كانوا يُتبعون هذا الاعتراف بألوهية الله سبحانه وإنشائه لهم واستخلافهم في الأرض، بما ينبغي أن يتبعه من الدينونة لله وحده بلا شريك، واتباع أمره وحده بلا منازع‏.‏‏.‏ وهو ما يدعوهم إليه صالح بقوله‏:‏ ‏{‏يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره‏}‏‏.‏‏.‏

لقد كانت القضية هي ذاتها‏.‏‏.‏ قضية الربوبية لا قضية الألوهية‏.‏ قضية الدينونة والحاكمية قضية الاتباع والطاعة‏.‏‏.‏ إنها القضية الدائمة التي تدور عليها معركة الإسلام مع الجاهلية‏!‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 83‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ‏(‏69‏)‏ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏70‏)‏ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ‏(‏71‏)‏ قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ‏(‏73‏)‏ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏74‏)‏ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ‏(‏75‏)‏ يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ‏(‏76‏)‏ وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ‏(‏77‏)‏ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ‏(‏78‏)‏ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ‏(‏79‏)‏ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ‏(‏80‏)‏ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ‏(‏81‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ ‏(‏82‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ‏(‏83‏)‏‏}‏

يلم السياق في مروره التاريخي بالمستخلفين من عهد نوح، وبالأمم التي بوركت والأمم التي كتب عليها العذاب‏.‏‏.‏ يلم بطرف من قصة إبراهيم، تتحقق فيه البركات، في الطريق إلى قصة قوم لوط الذين مسهم العذاب الأليم‏.‏ وفي قصتي إبراهيم ولوط هنا يتحقق وعد الله بطرفيه لنوح‏:‏ ‏{‏قيل‏:‏ يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك‏.‏ وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم‏}‏ وقد كانت البركات في إبراهيم وعقبه من ولديه‏:‏ إسحاق وأبنائه أنبياء بني إسرائيل‏.‏ وإسماعيل ومن نسله خاتم الأنبياء المرسلين‏.‏

‏{‏ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى‏}‏‏.‏‏.‏

ولا يفصح السياق عن هذه البشرى إلا في موعدها المناسب بحضور امرأة إبراهيم‏!‏ والرسل‏:‏ الملائكة‏.‏ وهم هنا مجهولون، فلا ندخل مع المفسرين في تعريفهم وتحديد من هم بلا دليل‏.‏

‏{‏قالوا‏:‏ سلاماً‏.‏ قال‏:‏ سلام‏}‏‏.‏‏.‏

وكان ابراهيم قد هاجر من أرض الكلدانيين مسقط رأسه في العراق، وعبر الأردن، وسكن في أرض كنعان في البادية وعلى عادة البدو في إكرام الأضياف راح إبراهيم يحضر لهم الطعام وقد ظنهم ضيوفاً‏:‏

‏{‏فما لبث إن جاء بعجل حنيذ‏}‏‏.‏‏.‏

أي سمين مشوي على حجارة الرضف المحماة‏.‏

ولكن الملائكة لا ياكون طعام أهل الأرض‏:‏

‏{‏فلما رأى أيديهم لا تصل إليه‏}‏‏.‏‏.‏

أي لا تمتد إليه‏.‏

‏{‏نكرهم وأوجس منهم خيفة‏}‏‏.‏‏.‏

فالذي لا يأكل الطعام يريب، ويشعر بأنه ينوي خيانة أو غدراً بحسب تقاليد أهل البدو‏.‏‏.‏ وأهل الريف عندنا يتحرجون من خيانة الطعام، أي من خيانة من أكلوا معه طعاماً‏!‏ فإذا امتنعوا عن طعام أحد فمعنى هذا أنهم ينوون به شراً، أو أنهم لا يثقون في نياته لهم‏.‏‏.‏ وعند هذا كشفوا له عن حقيقتهم‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ لا تخف، إنا أرسلنا إلى قوم لوط‏}‏‏.‏‏.‏

وإبراهيم يدرك ما وراء إرسال الملائكة إلى قوم لوط‏!‏ ولكن حدث في هذه اللحظة ما غير مجرى الحديث‏:‏

‏{‏وامرأته قائمة فضحكت‏}‏‏.‏‏.‏

وربما كان ضحكها ابتهاجاً بهلاك القوم الملوثين‏:‏

‏{‏فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب‏}‏‏.‏‏.‏

وكانت عقيماً لم تلد وقد أصبحت عجوزاً‏.‏ ففاجأتها البشرى بإسحاق‏.‏ وهي بشرى مضاعفة بأن سيكون لإسحاق عقب من بعده هو يعقوب‏.‏ والمرأة وبخاصة العقيم يهتز كيانها كله لمثل هذه البشرى، والمفاجأة بها تهزها وتربكها‏:‏

‏{‏قالت‏:‏ يا ويلتا‏!‏ أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً‏؟‏ إن هذا لشيء عجيب‏}‏‏.‏‏.‏

وهو عجيب حقاً‏.‏ فالمرأة ينقطع طمثها عادة في سن معينة فلا تحمل‏.‏ ولكن لا شيء بالقياس إلى قدرة الله عجيب‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ أتعجبين من أمر الله‏؟‏ رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت‏.‏ إنه حميد مجيد‏}‏‏.‏‏.‏

ولا عجب من أمر الله‏.‏ فالعادة حين تجري بأمر لا يكون معنى هذا أنها سنة لا تتبدل‏.‏

وعندما يشاء الله لحكمة يريدها وهي هنا رحمته بأهل هذا البيت وبركاته الموعودة للمؤمنين فيه يقع ما يخالف العادة، مع وقوعه وفق السنة الإلهية التي لا نعلم حدودها، ولا نحكم عليها بما تجري به العادة في أمد هوعلى كل حال محدود، ونحن لا نستقرئ جميع الحوادث في الوجود‏.‏

والذين يقيدون مشيئة الله بما يعرفونه هم من نواميسه لا يعرفون حقيقة الألوهية كما يقررها الله سبحانه في كتابه وقوله الفصل وليس للعقل البشري قول في ذلك القول وحتى الذين يقيدون مشيئة الله بما يقرر الله سبحانه أنه ناموسه لا يدركون حقيقة الألوهية كذلك‏!‏ فمشيئة الله سبحانه طليقة وراء ما قرره الله سبحانه من نواميس‏.‏ ولا تتقيد هذه المشيئة بالنواميس‏.‏

نعم إن الله يجري هذا الكون وفق النواميس التي قدرها له‏.‏‏.‏ ولكن هذا شيء والقول بتقيد إرادته بهذه النواميس بعد وجودها شيء آخر‏!‏ إن الناموس يجري وينفذ بقدر من الله في كل مرة ينفذ فيها‏.‏ فهو لا يجري ولا ينفذ آلياً‏.‏ فإذا قدر الله في مرة أن يجري الناموس بصورة أخرى غير التي جرى بها في مرات سابقة كان ما قدره الله ولم يقف الناموس في وجه القدر الجديد‏.‏‏.‏ ذلك أن الناموس الذي تندرج تحته كل النواميس هو طلاقة المشيئة بلا قيد على الإطلاق، وتحقق الناموس في كل مرة يتحقق فيها بقدر خاص طليق‏.‏

وإلى هنا كان إبراهيم عليه السلام قد اطمأن إلى رسل ربه، وسكن قلبه بالبشرى التي حملوها إليه‏.‏ ولكن هذا لم ينسه لوطاً وقومه وهو ابن أخيه النازح معه من مسقط رأسه والساكن قريباً منه وما ينتظرهم من وراء إرسال الملائكة من هلاك واستئصال‏.‏ وطبيعة إبراهيم الرحيمة الودود لا تجعله يطيق هلاك القوم واستئصالهم جميعاً‏:‏

‏{‏فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجآءته البشرى يجادلنا في قوم لوط‏.‏ إن أبراهيم لحليم أواه منيب‏}‏‏.‏

والحليم الذي يحتمل أسباب الغضب فيصبر ويتأنى ولا يثور‏.‏ والأوّاه الذي يتضرع في الدعاء من التقوى‏.‏ والمنيب الذي يعود سريعاً إلى ربه‏.‏‏.‏ وهذه الصفات كلها قد دعت إبراهيم أن يجادل الملائكة في مصير قوم لوط وإن كنا لا نعلم كيف كان هذا الجدال لأن النص القرآني لم يفصله، فجاءه الرد بأن أمر الله فيهم قد قضي وأنه لم يعد للجدال مجال‏:‏

‏{‏يا أبراهيم أعرض عن هذا، إنه قد جاء أمر ربك، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود‏}‏‏.‏‏.‏

ويسكت السياق‏.‏ وقد سكت ولا شك إبراهيم‏.‏‏.‏ ويسدل الستار على مشهد إبراهيم وزوجه ليرفع هناك على مشهد حافل بالحركة والانفعال مع لوط‏.‏ وقوم لوط في مدن الأردن‏:‏ عمورية وسدوم‏.‏

‏{‏ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً، وقال‏:‏ هذا يوم عصيب‏!‏‏}‏‏.‏

لقد كان يعرف قومه‏.‏ ويعرف ما أصاب فطرتهم من انحراف وشذوذ عجيبين‏.‏ إذ يتركون النساء إلى الرجال، مخالفين الفطرة التي تهتدي إلى حكمة خلق الأحياء جميعاً أزواجاً، كي تمتد الحياة بالنسل ما شاء لها الله‏.‏ والتي تجد اللذة الحقيقية في تلبية نداء الحكمة الأزلية، لا عن تفكير وتدبير، ولكن عن اهتداء واستقامة‏.‏ والبشرية تعرف حالات مرضية فردية شاذة، ولكن ظاهرة قوم لوط عجيبة‏.‏ وهي تشير إلى أن المرض النفسي يعدي كالمرض الجسدي‏.‏ وأنه يمكن أن يروج مرض نفسي كهذا نتيجة لاختلال المقاييس في بيئة من البيئات، وانتشار المثل السيئ، عن طريق إيحاء البيئة المريضة‏.‏ على الرغم من مصادمته للفطرة، التي يحكمها الناموس الذي يحكم الحياة‏.‏ الناموس الذي يقتضي أن تجد لذتها فيما يلبي حاجة الحياة لا فيما يصادمها ويعدمها‏.‏ والشذوذ الجنسي يصادم الحياة ويعدمها، لأنه يذهب ببذور الحياة في تربة خبيثة لم تعد لاستقبالها وإحيائها‏.‏ بدلاً من الذهاب بها إلى التربة المستعدة لتلقيها وإنمائها‏.‏ ومن أجل هذا تنفر الفطرة السليمة نفوراً فطرياً لا أخلاقياً فحسب من عمل قوم لوط‏.‏ لأن هذه الفطرة محكومة بقانون الله في الحياة‏.‏ الذي يجعل اللذة الطبيعية السليمة فيما يساعد على إنماء الحياة لا فيما يصدمها ويعطلها‏.‏

ولقد نجد أحياناً لذة في الموت في سبيل غاية أسمى من الحياة الدنيا ولكنها ليست لذة حسية إنما هي معنوية اعتبارية‏.‏ على أن هذه ليست مصادفة للحياة، إنما هي إنماء لها وارتفاع بها من طريق آخر‏.‏ وليست في شيء من ذلك العمل الشاذ الذي يعدم الحياة وخلاياها‏.‏‏.‏

سيئ لوط بأضيافه‏.‏ وهو يعلم ما ينتظرهم من قومه، ويدرك الفضيحة التي ستناله في أضيافه‏:‏

‏{‏وقال‏:‏ هذا يوم عصيب‏}‏ ‏!‏

وبدأ اليوم العصيب‏!‏

‏{‏وجاءه قومه يهرعون إليه‏}‏‏.‏‏.‏ أي يسرعون في حالة تشبه الحمى‏.‏

‏{‏ومن قبل كانوا يعملون السيئات‏}‏‏.‏‏.‏

وكان هذا ما ساء الرجل بضيوفه، وما ضيق بهم ذرعه، وما دعاه إلى توقع يوم عصيب‏!‏

ورأى لوط ما يشبه الحمى في أجساد قومه المندفعين إلى داره، يهددونه في ضيفه وكرامته‏.‏ فحاول أن يوقظ فيهم الفطرة السليمة، ويوجههم إلى الجنس الآخر الذي خلقه الله للرجال، وعنده منه في داره بناته، فهن حاضرات، حاضرات اللحظة إذا شاء الرجال المحمومون تم الزواج على الفور، وسكنت الفورة المحمومة والشهوة المجنونة‏!‏

‏{‏قال‏:‏ يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم‏.‏ فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي‏.‏ أليس منكم رجل رشيد‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

‏{‏هؤلاء بناتي هن أطهر لكم‏}‏‏.‏‏.‏

أطهر بكل معاني الطهر‏.‏ النفسي والحسي‏.‏ فهن يلبين الفطرة النظيفة، ويثرن مشاعر كذلك نظيفة‏.‏ نظافة فطرية ونظافة أخلاقية ودينية‏.‏ ثم هن أطهر حسياً‏.‏ حيث أعدت القدرة الخالقة للحياة الناشئة مكمناً كذلك طاهراً نظيفاً‏.‏

‏{‏فاتقوا الله‏}‏‏.‏

قالها يلمس نفوسهم من هذا الجانب بعد ان لمسها من ناحية الفطرة‏.‏

‏{‏ولا تخزون في ضيفي‏}‏‏.‏‏.‏

قالها كذلك يلمس نخوتهم وتقاليد البدو في إكرام الضيف إطلاقاً‏.‏

‏{‏أليس منكم رجل رشيد‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

فالقضية قضية رشد وسفه إلى جوار أنها قضية فطرة ودين ومروءة‏.‏‏.‏ ولكن هذا كله لم يلمس الفطرة المنحرفة المريضة، ولا القلوب الميتة الآسنة، ولا العقول المريضة المأفونة‏.‏ وظلت الفورة المريضة الشاذة في اندفاعها المحموم‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ لقد علمت ما لنا في بناتك من حق‏.‏ وإنك لتعلم ما نريد‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

لقد علمت لو أردنا بناتك لتزوجناهن‏.‏ فهذا حقنا‏.‏‏.‏ ‏{‏وإنك لتعلم ما نريد‏}‏‏.‏‏.‏ وهي إشارة خبيثة إلى العمل الخبيث‏.‏

وأسقط في يد لوط، وأحس ضعفه وهو غريب بين القوم، نازح إليهم من بعيد، لا عشيرة له تحميه، وليس له من قوة في هذا اليوم العصيب؛ وانفرجت شفتاه عن كلمة حزينة أليمة‏:‏

‏{‏قال‏:‏ لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد‏!‏‏}‏‏.‏‏.‏

قالها وهو يوجه كلامه إلى هؤلاء الفتية الذين جاء الملائكة في صورتهم وهم صغار صباح الوجوه؛ ولكنهم في نظره ليسوا بأهل بأس ولا قوة‏.‏ فالتفت إليهم يتمنى أن لو كانوا أهل قوة فيجد بهم قوة‏.‏ أو لو كان له ركن شديد يحتمي به من ذلك التهديد‏!‏

وغاب عن لوط في كربته وشدته أنه يأوي إلى ركن شديد‏.‏ ركن الله الذي لا يتخلى عن أوليائه‏.‏ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية‏:‏ «رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد»

وعندما ضاقت واستحكمت حلقاتها، وبلغ الكرب أشده‏.‏‏.‏ كشف الرسل للوط عن الركن الشديد الذي يأوي إليه‏:‏

‏{‏قالوا‏:‏ يا لوط، إنا رسل ربك، لن يصلوا إليك‏}‏‏.‏‏.‏

وأنبأوه نبأهم، لينجو مع أهل بيته الطاهرين، إلا امرأته فإنها كانت من القوم الفاسدين‏:‏

‏{‏فأسر بأهلك بقطع من الليل، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك‏.‏ إنه مصيبها ما أصابهم، إن موعدهم الصبح‏.‏ أليس الصبح بقريب‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

والسرى‏:‏ سير الليل، والقطع من الليل‏:‏ بعضه، ولا يلتفت منكم أحد‏.‏ أي لا يتخلف ولا يعوق‏.‏ لأن الصبح موعدهم مع الهلاك‏.‏ فكل من بقي في المدينة فهو هالك مع الهالكين‏.‏

‏{‏أليس الصبح بقريب‏؟‏‏}‏‏.‏‏.‏

سؤال لإنعاش نفس لوط بعد ما ذاق‏.‏ لتقريب الموعد وتأكيده‏.‏ فهو قريب‏.‏ مع مطلع الصباح‏.‏ ثم يفعل الله بالقوم بقوته ما لم تكن قوة لوط التي تمناها فاعله‏!‏

والمشهد الأخير‏.‏ مشهد الدمار المروع، اللائق بقوم لوط‏:‏

‏{‏فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها، وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود‏.‏ مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد‏}‏‏.‏‏.‏

فلما جاء موعد تنفيذ الأمر ‏{‏جعلنا عاليها سافلها‏}‏‏.‏‏.‏ وهي صورة للتدمير الكامل الذي يقلب كل شيء ويغير المعالم ويمحوها‏.‏

وهذا القلب وجعل عاليها سافلها أشبه شيء بتلك الفطرة المقلوبة الهابطة المرتكسة من قمة الإنسان إلى درك الحيوان‏.‏ بل أحط من الحيوان، فالحيوان واقف ملتزم عند حدود فطرة الحيوان‏.‏‏.‏

‏{‏وأمطرنا عليها حجارة من سجيل‏}‏‏.‏‏.‏

حجارة ملوثة بالطين‏.‏‏.‏ وهي كذلك مناسبة وعلى قدر المقام‏:‏

‏{‏منضود‏}‏‏.‏‏.‏ متراكم بعضه يلاحق بعضاً‏.‏

هذه الحجارة‏.‏‏.‏ ‏{‏مسوّمة عند ربك‏}‏‏.‏‏.‏ كما تسوم الماشية أي تربى وتطلق بكثرة‏.‏ فكأنما هذه الحجارة مرباة‏!‏ ومطلقة لتنمو وتتكاثر‏!‏ لوقت الحاجة‏.‏‏.‏ وهو تصوير عجيب يلقي ظله في الحس، ولا يفصح عنه التفسير، كما يفصح عنه هذا الظل الذي يلقيه‏.‏‏.‏

‏{‏وما هي من الظالمين ببعيد‏}‏‏.‏‏.‏

فهي قريبة وتحت الطلب، وعند الحاجة تطلق فتصيب‏!‏

والصورة التي يرسمها السياق هنا لهذه النازلة التي أصابت قوم لوط هي أشبه شيء ببعض الظواهر البركانية التي تخسف فيها الأرض فتبتلع ما فوقها ويصاحب هذا حمم وحجارة ووحل‏.‏‏.‏ وعند ربك للظالمين كثير‏!‏‏!‏‏!‏

ولا نقول هذا الكلام لنقول‏:‏ إنه كان بركان من تلك البراكين، ثار في ذلك الوقت، فوقع ما وقع‏.‏ إننا لا ننفي هذا‏.‏ فقد يكون هو الذي وقع فعلاً‏.‏ ولكننا لا نجزم به كذلك ولا نقيد قدر الله بظاهرة واحدة مألوفة‏.‏‏.‏ وقوام القول في هذه القضية وأمثالها أنه جائز أن يكون في تقدير الله وقوع انفجار بركاني في موعده في هذا الموعد ليحقق قدر الله في قوم لوط كما قدر في علمه القديم‏.‏ وهذا التوقيت والتوافق شأن من شؤون ألوهيته سبحانه وربوبيته للكون وتصريفه لكل ما يجري فيه متناسقاً مع قدره بكل شيء وبكل حي فيه‏.‏

وجائز كذلك أن تكون هذه الظاهرة وقعت بقدر خاص تعلقت به مشيئة الله سبحانه لإهلاك قوم لوط على هذه الصورة التي تم بها في ذلك الحين‏.‏ وفهم علاقة مشية الله بالكون على النحو الذي بيناه قريباً في التعليق على حادثة امرأة إبراهيم، لا يبقي مجالاً لمشكلة تقوم في التصور الإنساني لمثل هذه الظواهر والأمور‏.‏‏.‏